استطاع الفنان التشكيلي يحيى الشويطر تقديم تجربة فنية متجاوزة تمثلت في اتخاذ مسار بدا بعيداً في أفق التلقي لثقافتنا البصرية، وذلك ما يمنحه أحقية الريادة لاتجاه حديث في الفن اليمني.
ولعل المتابع للحركة التشكيلية في اليمن يعرف رواد اتجاهاتها الفنية كالواقعية والانطباعية التي ظهرت بفعل التفاعل مع حركة الفن المعاصر، لكن تبقى بعض الاتجاهات الأخرى كالتجريدية خارج أي تقييم منصف يضع التجارب الفنية الجديدة في سياقها المستحق. إن مفاهيم التأسيس والريادة والتجديد هي مفاهيم حيوية عند الحديث عن أي حركة فنية أو تيار أدبي، وحتى لا تطلق الالقاب على عواهنها يمكن الاستناد على إطار معياري واضح يحدد كل مفهوم على حدة، إذ تختلف الريادة عن التأسيس في أنها تمثل البداية الناضجة على عكس التأسيس الذي يمثل المحاولات الأولى والتي قد تفتقر إلى الملامح الشكلية والمضمونية الكاملة، فالدور التأسيسي يمثل السبق الزمني ويتبعه الدور الريادي الذي قد يكون أو لا يكون متأثرا بسابقه ولكنه بالضرورة يعد امتدادا له، بالتالي يمكن أن يكون هناك رواد كثيرون ولكنهم ليسوا مؤسسين بالضرورة، وعليه فهاشم علي -مثلا- هو رائد الاتجاه الانطباعي في الفن اليمني لأنه يمثل التجربة الأنضج و قد يكون هناك مؤسس قبله و لكن ذو تجربة أقل اكتمالاً.
الشويطر.. اللون إذا اختلف
بعد آخر معرض شخصي له في مكتبة السعيد بتعز منتصف يناير ٢٠١٣، انزوى الفنان يحيى الشويطر، مثلما انزوى الفن عموما، بفعل الصراع السياسي الدامي في البلاد، إضافة إلى توقفه الكامل عن الرسم بسبب ضعف بصره مع دخوله العقد الثامن من العمر، مع ذلك لم تمنع الحرب من حضور الفن اليمني عالميا ففي 2015 نشرت مؤسسة ايماجوموندي Imago Mundi بالتعاون مع مجموعة لوتشيانو بينيتون الإيطالية كتاباً عن التشكيليين اليمنيين المعاصرين، صدر باللغتين الايطالية والانجليزية، وضم 170 فنانا وفنانة منهم الشويطر.
منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين بدأت انطلاقته الفنية حين قرر الانتقال من خطاط هاو إلى فنان تشكيلي وكان ذلك متأخراً زمنياً بالنسبة لسنه، إذ كان قد ناهز الخمسين من العمر. لقد وجد في نفسه طاقة شديدة للرسم استحوذت عليه رغم كل شيء؛ خصوصاً أن الظروف قد حالت دون تحقيق أحلامه في فترة الشباب. واستمرت مزاولته للرسم حتى منتصف العقد الأول من الألفية، وأنجز خلالها ما يزيد عن ٢٠٠ لوحة معظمها ما بين صغيرة إلى متوسطة الحجم وغالبها مرسوم بالألوان المائية أو أقلام التلوين على ورق مقوى والتي عادة ما يستخدمها الهواة، ومع أنها تقنية رسم تعد بدائية بالنسبة لأي فنان محترف لكن ذلك لم يقف مانعاً أمام الشويطر فقد وجد نفسه ينزع للمغايرة سواء بأدواته أو رؤيته.
ولد يحيى عبدالله الشويطر في حارة السني بمدينة إب القديمة عام ١٩٣٣. درس في المعلامة ثم في مدرسة المكتب بمدينة إب كما درس العلم الشرعي في جبلة.
منذ نشأته تميز بين أقرانه بجمال الخط. وفي سبعينات القرن الماضي أنشأ مع أخيه عبدالكريم وابن أخته أحمد عنتر محلاً لكتابة اللافتات واللوحات التجارية بالخط العربي و أسموه “دار الخط العربي”، لكن التجربة لم تستمر، وخلال الثمانينات كان يوكل إليه كتابة الشهادات التقديرية التي تمنحها قيادة محافظة إب لتكريم الشخصيات البارزة والمحتفى بهم، ثم تطور الأمر إلى المشاركة في المعارض المدرسية التي كانت تقيمها مدرسة النهضة الثانوية نهاية كل عام، حيث كان يشارك ببعض اللوحات التي لفتت انتباه الأستاذ ممدوح سالم، مدرس التربية الفنية مصري الجنسية، إلى درجة أنه كتب رسالة ثناء للشويطر يحثه فيها على الاستمرار.
منذ أواخر الثمانينات بدأ التفرغ الحقيقي للفن التشكيلي حيث أنتج بغزارة مع ميل قوي للتجريب واكتشاف مسارات جديدة للخطوط والألوان.
لم ينزع أبداً إلى رسم البورتريهات أو تجسيد الواقعي إذ كان يهدف لإثارة حساسية بصرية جديدة لدى المتلقي، وطوال تجربته ظل يحاول ابتداع مضامين جديدة سواء على مستوى الشكل أو المنظور. بالإضافة إلى ذلك، أخذ الشويطر بتوظيف الخط العربي وبخاصة الآيات القرآنية في اللوحة كمتن بصري يتوارى أحياناً وأحياناً يظهر واضحاً، وسط مزيج مركب من الخطوط والألوان بحيث تقدم اللوحة بعض الحروف الظاهرة ويتوارى البعض الآخر ما يقحم المتلقيّ في لعبة تحدٍ لاكتشاف الآية القرآنية وأحياناً تبدو الآية واضحة ولكنها قد اكتسبت ابعاداً بصرية جديدة وسط محيط لوني يغمر اللوحة ومع تحوير في منحنيات الحروف وأبعاده. يبدو الأمر مثل لوحات الطغراء* التي أظهرت مهارة الخطاط العربي في تحويل الخطوط إلى أشكال أو زخارف. كانت اللوحات /الكلمات تمثل تأصيلاً لتجربته الفنية من خلال الاغتراف من الموروث الثقافي العربي، وكأنه يريد ان يمزج تجربته المعاصرة بالأصالة المتجذرة إلى جانب توظيف التناظر الشكلي بين عناصر اللوحة؛ ومعروف أن التناظر سمة فنية شائعة في الفن الإسلامي.
في مرحلة لاحقة، نوّع الشويطر في أساليبه الفنية بين المجسمات التجريدية والكولاج الذي يدمج الصورة الفوتوغرافية بالتشكيل البصري وسعى أيضا لتقديم لوحات تتضمن الأيام الوطنية مثل ٢٦ سبتمبر،١٤ اكتوبر ،٢٢ مايو في قالب تشكيلي.
حاول أحياناً إنتاج لوحات زيتية على القماش لكنه لم يستمر؛ إذ لم يجد فيها الوسيط الملائم لنقل خيالاته البصرية، ربما لأن التجريد وفنون الخط العربي لا تحتاج إلى لوحة وألوان بقدر ما تحتاج إلى مسطرة ومنقلة خصوصاً أن لوحاته تركز على الأبعاد والدقة السنتيمترية للمسافات والزوايا بين الخطوط المختلفة داخل اللوحة ويتطلب ذلك إنكباباً على الورقة لا يتناسب مع العمل على لوحة منصوبة على مسند اللوحة.
بوصلة الحس الجمالي
لا يجيد الشويطر شرح لوحاته أو حتى وضع عناوين لها، هو فقط يرسم ويترك الباقي للمتلقي، ويكاد لا يمتلك أية ثقافة فنية ولن يحدثك عن مدارس فنية أو فنانين أو لوحات شهيرة، فقط هو يتبع حسه الفني الفطري الخاص الذي يعيد تعريف العمل الفني بناءً على المادة البصرية المنجزة على اللوحة ودون اللجوء إلى تفصيلات أخرى. إنه فنان عصامي علّم نفسه بنفسه دون دراسة فنية، ورغم ذلك فقد قدم تجربة مستمدة من قلب مدارس الفن الحديث.
بعيداً عن الخوض في التوصيفات المدرسية للحداثة الفنية، يمكن القول إنها-الحداثة الفنية – تقوم على مرتكزين أساسيين: المرتكز الأول مفاده أن العمل الفني يصبح حداثياً عندما يتطلب من المتلقي ثقافة فنية وذائقة مشحوذة؛ أي أنه يدفع بالمتلقي للارتقاء بدلاً من الهبوط كوسيلة لمخاطبة وعيه الفني، أما المرتكز الثاني فيتلخص في أن الفن الحداثي، لا يحيل إلى شيء خارجي؛ لأنه يحيل فقط إلى نفسه، فالفن بنظر هذه الرؤية الحداثوية ليس محاكاة أو تجسيدا للواقع؛ و إنما إعادة خلق و صياغة جديدة ما يعني أن تغيراً ما في الرؤية استتبع تغيرا في الشكل والأسلوب. وفق هذين المرتكزين يمكن مقاربة الفن الحديث الذي يعتبر الشويطر ممثلا لأحد اتجاهاته في الحركة التشكيلية اليمنية.
لا تحاول أعمال الشويطر إعطاء إيحاء نفسي بقدر ما تقدم نفسها للمتلقي كحدث، فاللوحة تؤدي نفسها وتستمر في لعبة الكشف والتخفي بفعل التجريد العالي والانفلات من أي معنى، وهذا يعيدنا إلى المرتكز الثاني المذكور آنفاً.
مثلا في لوحة “قل لو كان البحر مداداً” يدرك الناظر أنه أمام آية قرآنية مدسوسة داخل تعاريج اللوحة وعليه استخراجها بكثير من الجهد بفعل مراوغة الخطوط والتداخلات اللونية وبطريقة تجعل من التلقي الجمالي لحظة اكتشاف.
بعض اللوحات الأخرى تجسد أشكالا مجردة منصوبة عمودياً ما يجعلها أشبه بمسلّات يمكن تحويلها إلى منحوتات أو مجسمات هندسية ثلاثية الأبعاد، وفي هذه الحالة يستحسن قراءة اللوحة من أعلى إلى أسفل أو العكس باعتبار أن الشكل المجرد يتكون من قاعدة وهيكل، وفي أعمال أخرى نجد نوعاً من الزخرفة والتشكيلات البصرية الدقيقة الخطوط والمضبوطة في المسافات البينية حتى أن بعضها يبدو منمنماً للغاية، وعلى النقيض من ذلك تظهر لوحات أخرى وهي تخلو من الدقة الهندسية لتحل محلها بعثرة لونية وخطية بلا بؤرة واضحة.
يبقى الهاجس الفني في مجمل تجربة الشويطر مركزاً على خلق انسجامات بين أشكال الخط المستقيمة والمنحنية والملتوية مع بعضها البعض من جهة، ومع اللون في تدرجاته وتمازجاته من جهة أخرى لتصبح اللوحة نسيجاً تجريدياً معقداً مستفزاً وجميلاً في آنٍ واحد.
* الطغراء أحد فنون الخط العربي القديمة التي أعطت مجالا لتطويعه بهدف ابتكار أشكال أو شعارات، وكان يستخدم قديما بمثابة توقيع للخلفاء والسلاطين، وكان يعد ختما تمهر به الوثائق الرسمية، وهو مزيج من الخط الديواني وخط الإجازة. وفي الوقت الراهن يوظفه المصممون بطرق أكثر وضوحا، ولعل أشهر طغراء مألوف حاليا هو شعار قناة الجزيرة.